ابليس
Iblis - Iblis
إبليس Iblis اسم جامع لمعاني الشر، على اختلاف صوره في ذهن الإنسان. وعلم يدل، ببنيته الرمزية وبعده الأسطوري، على ذات تعارض، في جميع صفاتها، الصفات الرحمانية والصفات الأنسية التي يرقى بها الإنسان في معارج الرشاد والكمال. وهي ذات ضدية تنطوي على ثلاثة أبعاد: بعد ديني يحدد الفارق بين الحلال والحرام والطاعة والمعصية والإيمان والشك والتقى والفجور..، وبعد معرفي، هو قوة السلب العقلية النافية على الدوام، التي تبيّن نسبة الحقيقة والتباسها بالباطل، وتحدد الفارق بين علم الله المطلق والشامل والكلي وعلم الإنسان المحدود الملتبس بالغلط والوهم والباطل. وبعد أخلاقي يتعلق بقيم الحق والخير والجمال معرّفة بأضدادها، وقد كانت هذه القيم، ولا تزال، فوق الإنسان وأمامه وفي متناول يده، وكان سعي الإنسان في سبيل تمثلها وتجسيدها في نظام سياسي ومؤسسات اجتماعية، وجهاً من وجوه الصيرورة التاريخية، صيرورة الكون والفساد التي يحتل فيها إبليس، أو الشيطان [ر] موقع الضد المعارض للإنسان، فإبليس بكل ما يحمله اللفظ من إيحاءات دلالية قوة سالبة، هي قوة التعطيل والإفساد والتشويه، نقيض قوة الخلق والتكوين.
وقد نسبت إلى إبليس صفات الخيلاء والكبر والعصيان والتمرد والكراهية والحسد والباطل والغواية والخبث والخداع.. واقترن تاريخه بتاريخ الأخلاق. وكانت معرفته فاتحة التمييز بين الخير والشر بوصفهما مفهومين أخلاقيين أقامهما الفكر النظري مستنداً إلى الدين التوحيدي أو دين الإله الواحد. وأصبح الواجب والجائز والمحظور من أهم دعامات الحياة الاجتماعية. فقبل ظهور الديانات التوحيدية وتحول إبليس إلى رمز للشر في العالم، لم تكن أعمال البشر تقاس سوى بميزان النفع والضرر والأمن والخوف واللذة والألم، ولم يكن للأحكام الأخلاقية من مدلول في الكلام، ومن البديهي أنه لم يكن لها مدلول في الذهن والوجدان. فقد كان مفهوم إبليس ضرورياً لمعرفة الخير والشر والحق والباطل والحسن والقبيح.
وكلمة إبليس في اللغة العربية، من الأصل الثلاثي بَلَسَ. وأبلس: انقطعت حجته ويئس وتحيَّر. والإبلاس هو الشر. وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: )ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ المُجْرِمونَ[ (الروم 12). ويذهب بعض اللغويين المحدثين إلى أن إبليس اسم معرّب من الكلمة اليونانية ديابوليس (ذيافوليس) ومعناها المشتكي زوراً أو الثالب. وثمة تشابه بين مدلول كلمة (ست) عند المصريين ومدلول اسم الشيطان Diabolosباليونانية فكلاهما يفيد الاعتراض والدخول بين شيئين للتعويق والإفساد. وأصل الكلمة اليونانية يعود إلى الكنعانية - الفينيقية وهو بعل زبوب (رب الذباب وفي السريانية بعل دبابا)، ثم أصبحت في اليونانية بعل زبولBeel Zaboul التي أصبحت بعدئذ ديابولوس.
وقد عرف إبليس أو الشيطان، في جميع الحضارات القديمة وفي أساطير الأولين وفي جميع العقائد الدينية، بأسماء مختلفة تتفق جميعها في الدلالة على الشر وعلى المعصية والاستكبار.
وكانت الحنيفية حلقة الوصل بين الوثنيات القديمة وعقائد التوحيد والتنزيه، فقد قالت بعزل قوة الشر عن الخير وحصرتها في «الشخصية الشيطانية». وفي النصوص اليهودية لم يكن الشيطان هو الذي أغوى حواء بالأكل من الشجرة المحرمة (الخطيئة الأصلية) بل كانت الحية هي صاحبة الغواية جرياً على سنن الأقدمين الذين كانوا يوحدون بين الضرر الحسي والخطيئة الأخلاقية، قبل أن تصبح الحية رمزاً للشيطان.
ولم يذكر الشيطان في كتاب من كتبهم قبل النفي إلى أرض بابل، ثم كان ذكره فيها على الوصف لا على التسمية. ولم يذكر بصيغة العَلَم إلا في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الأيام «وقف الشيطان ضد إسرائيل» وكانت قرابين الكفارة عندهم تقسم على التساوي بين الإله وعزازيل رب القفار أو الجنّي الذي يهيمن على الصحراء. وكان إيمانهم بوجود الآلهة الأخرى التي يعبدها غيرهم (الأغيار) بديلاً من صور الشيطان، إذ كانت فكرة السيادة في عبادتهم تغلب على فكرة الخلق، فلم ينكروا وجود الأرباب التي تقدسها العشائر الأخرى، ولكنهم أنكروا سيادتها ودانوا بالولاء للإله يهوه.
أما في المسيحية، فقد ذكر إبليس بعدة أسماء ونسبت إليه عدة صفات: فهو الشيطان، و«روح الضعف» والشرير ورئيس هذا العالم وبعل زبول الذي قال عنه الفريسيون إنه رئيس الشياطين وهو أكبر عدو لله وللإنسان، وهو الذي جرب المسيح، والذي يغري الإنسان بارتكاب الشر، وهو الحية القديمة التي أوقعت حواء في التجربة، وهو الذي ينزع الزرع الجيد متى زرع أو يزرع في وسطه زؤاناً، وله قدرة على إعطاء الأرواح النجسة سلطة على البشر.. وتعارض الأناجيل مملكة بعل زبول بملكوت الله. وتصف طبيعة إبليس بأنها روحية، فهو ملاك سقط بسبب الكبرياء، وله جميع صفات هذه الرتبة سواء كانت عقلية أو حسية أو إرادية، وله تلاميذ «يغربلهم كالحنطة»، يداخل من يوسوس لهم، ويلازم بني الإنسان يجرّبهم ويغويهم. وقد سماه بولس الرسول «إله هذا الدهر» و«رئيس سلطان الهواء» و«الروح الذي يعمل في أبناء المعصية». وقد صوره إنجيل لوقا على هيئة «لوسيفر» حامل النور أو كوكب الصباح، إذ قال المسيح لتلاميذه: «إني رأيت الشيطان ساقطاً كالبرق من السماء» (الإصحاح العاشر).
ولقد وصف إبليس في الكتب الدينية بصفات حسية تواترت في رؤى النساك والمتنبئين، وأخرى عقلية استنبطها اللاهوتيون من طبيعة إبليس وعمله بطريق القياس، وتحددت ملامح «شخصيته» تدريجيا في اللاهوت المسيحي عندما بدأت عملية تنظيم العبارات والإشارات الواردة في الكتب السماوية اليهودية والمسيحية، وتأويلها، بكل ما داخلها مع الزمن من المؤثرات الشرقية المختلفة. ومن المتفق عليه بين الفقهاء واللاهوتيين أن إبليس مصدر الشر في العالم، وأن المسيح عليه السلام زعزع سلطانه بعقيدة الخلاص وفداء البشرية. وأنه ملعون، مطرود من ملكوت الله وصائر إلى النار يوم الحساب. وأنه ذو جسد يلائم مقامه في الهواء الكثيف المحيط بالأرض، يسري في سريرة الإنسان مجرى النَفَس الذي لاتراه العينان. ويفسد القرابين الإلهية ويختلس أبخرتها وماءها ليتحول بها عن مقصدها ويتسلل إلى الأرواح من مسكنه في طبقات الهواء أو يترصد لها وهي صاعدة إلى الملأ الأعلى. وقد رأى توما الأكويني الذي بنى فلسفته على حرية الإرادة أن الشياطين كائنات عقلية أو ذهنية مسلطة على عقول البشر لاستدراجها واستخراج ما انطوت عليه من الصدق والمناعة. وأن الشيطان كان في المنزلة العليا بين المخلوقات العلوية وكان امتحانه، من ثم، أكثر عسراً ومشقة من امتحان سواه، وكانت قدرته على الثبات والنجاة أعظم من قدرة الآخرين، فأذهلته العظمة عن كل شيء سوى نفسه وطمح إلى مساواة الله في عظمته ومشاركته في وحدانيته، وتبعه من تبعه ممن هم على غراره فهوى من عليائه، وهوى معه الآخرون.
أما الإسلام الحنيف فيحدد صورة إبليس وعمله وماهيته على أساس غير «الخطيئة الأصلية». فقد خلق الله الإنسان وحمله تبعات أعماله وأوزار أخطائه وخطاياه وجعله حراً في اختيار سبيل الحق والرشاد أو سبيل الباطل والغي والضلال. فالقرآن الكريم يحمل آدم وحواء تبعة الخطيئة التي ارتكباها بغواية إبليس. }قالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أنفسنا وإن لم تَغْفِر لَنَا وترْحَمْنَا لنكُونَنَّ من الْخاسِرِين َ{ (الأعراف 23) ولايجعل للشيطان سلطاناً على الإنسان مادام الإنسان مؤمناً قانتاً نقي السريرة. }إن عبادي لَيْسَ لَكَ عَليْهِمْ سُلْطَانٌ { (الحِجْر 42) ذلك لأن الله سبحانه كرّم الإنسان وعلمه ما لم يكن يعلم، وعلم آدم أبا البشر الأسماء كلها واستخلفه في الأرض وفضله على الملائكة إذ أمرهم أن يسجدوا له فسجدوا إلا إبليس الذي أبى واستكبر وكان من الكافرين.
وفي التراث العربي - الإسلامي أقوال كثيرة في أصل إبليس وماهيته وعمله، تتفق جميعها في كونه خلقاً مفرداً خلقه الله من النار كما خلق آدم من الطين، فإبليس من مخلوقات الله سبحانه، وليس له أن ينشئ خلقاً أو يبدأ عملاً بإرادته وحده، وليس له علم الغيب، ولا هو بأقدر على الغواية من شياطين الإنس، ولايعدو أن يكون فتنة للنفس الضعيفة وخادعاً لمن يسهل خداعه، وأن يوسوس في صدور الناس، وكل نفس بما كسبت رهينة.
ويذكر القرآن الكريم أن إبليس كان من الملائكة لكنه عصى أمر الله ولم يعترف بخطيئته بل استكبر إذ سوغ عصيانه بأنه خير من آدم يسمو عليه كما تسمو النار على الطين، فلعنه الله وأخرجه من رحمته ثم طرد آدم وحواء من الجنة إذ أزلهما إبليس بغوايته فأكلا من الشجرة المحرمة، ليكون بعضهم لبعض عدواً وليكون الشيطان الرجيم وقبيله فتنة للناس وأولياء الذين لايؤمنون، وجعل لهم في الأرض مستقراً ومتاعاً إلى حين. }فَتَلَقَّى آدمُ من رَبّهِ كلمَاتٍ فَتَابَ عليهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم {. (البقرة 37) أما إبليس فلا توبة له ولا مغفرة لذنبه ومصيره إلى جهنم يوم الحساب. وقد تطورت قصة إبليس واستفاض فيها الرواة والمفسرون والوعّاظ وتزيّد بعضهم فيها واقتبس من الإسرائيليات ما أبعدها عن الأصل القرآني. وقد غلا المتصوفة كذلك فيما استنبطوه من أحكام في طبيعة إبليس ومنزلته وعمله فرأى بعضهم أن إبليس أثبت أصل التوحيد عندما رفض السجود إلا للواحد القهار. وعلى هذه الفكرة ستقوم في الأدب «مأساة إبليس» وقرر آخر أن للتكليف شقين هما الأمر والنهي وأن الأمر الذي اختص به إبليس أشق على النفس من النهي الذي صدر لآدم. وإذا كان التكليف يقتضي العقل والإرادة فإن إبليس قد اختار الإمهال ووقع آدم في الخطيئة. وظل الفرق بينهما قائماً فالأول عصى وتكبر واضطلع بالغواية والشر والثاني ندم وطلب المغفرة.
ويرى ابن الجوزي أن إبليس أو الشيطان «يجري من ابن آدم مجرى الدم» كما ورد في الحديث النبوي، وأن منهجه في التلبيس قائم على إظهار الباطل في صورة الحق، وأن أول التباس قد حل بإبليس نفسه حين أعرض عن «النص الصريح» ولجأ إلى العقل في استعمال المفاضلة بين الأصلين: النار والطين، وزاد على ذلك بالكبر.
وجملة القول: إن إبليس شيطاني الصفات شيطاني الوظيفة، وعدو للإنسان الساعي إلى الخير، وضده الذي يجري في نفسه وروحه مجرى الدم والنفس. وهي قوّة السلب والإفساد التي تلازم عملية الخلق والتكوين كما يلازم الحق الباطل ويلابس الشر الخير فيعرف كل منهما بضده ونقيضه. فهو مخلوق ضروري جعلته الحكمة الإلهية ملازماً للإنسان كاشفاً عما في نفسه من دواعي الخير ونوازع الحق ومولداً في روحه قوة الجهاد، جهاد النفس الأمارة بالسوء وجهاد المعرفة. فكلمة إبليس تفضي للمخاطب بجميع مدلولاتها المتشابهة أو المتقاربة في جميع اللغات والتي استقرت في الفقه والتفسير والعقيدة واللاهوت وفي الفكر والأدب والفن والأخلاق وفي وعي العامة والخاصة، وتوحي له بصور حسية وصفات عقلية متشابهة أو متقاربة أيضاً عند جميع الأمم والشعوب وفي جميع الحضارات. ولئن اختلف الناس، على مر العصور، في ماهيته وطبيعته فقد اتفقوا في تحديد صفاته وفهم وظيفته.
جاد الكريم الجباعي